الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والأفاك كثير الإفك، أي الكذب، والأثيم كثير الإثم.وإنما كان الكاهن أثيمًا لأنه يضم إلى كذبه تضليل الناس بتمويه أنه لا يقول إلا صدقًا، وأنه يتلقى الخبر من الشياطين التي تأتيه بخبر السماء.وجُعل للشياطين {تنزّل} لأن اتصالها بنفوس الكهان يكون بتسلسل تموجات في الأجواء العليا كما تقدم في سُورة الحجر.و{يُلقون السمع} صفة ل {كلِّ أفاك أثيم}، أي يظهرون أنهم يُلقون أسماعهم عند مشاهدة كواكب لتتنزل عليهم شياطينهم بالخبر، وذلك من إفكهم وإثمهم.وإلقاء السمع: هو شدة الإصغاء حتى كأنه إلقاءٌ للسمع من موضعه، شبه توجيه حاسة السمع إلى المسموع الخفي بإلقاء الحجر من اليد إلى الأرض أو في الهواء قال تعالى: {أو ألقَى السمع وهو شهيد} [ق: 37]، أي أبلغ في الإصغاء لِيَعِيَ ما يُقال له.وهذا كما أطلق عليه إصغاء، أي إمالة السمع إلى المسموع.وقوله: {وأكثرهم كاذبون} أي أكثر هؤلاء الأفاكين كاذبون فيما يزعمون أنهم تلقوه من الشياطين وهم لم يتلقوا منها شيئًا، أي وبعضهم يتلقى شيئًا قليلًا من الشياطين فيكذب عليه أضعافه.ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الكهان فقال: «ليسوُا بشيء» قيل: يا رسول الله فإنهم يحدثون أحيانًا بالشيء يكون حقًا.فقال: «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجِنيّ فَيَقَرُّها في أذُن وليه قَرَّ الدَّجاجة فيخلطون عليها أكثر من مائة كذبة» فهم أفّاكون وهم متفاوتون في الكذب فمنهم أفاكون فيما يزيدونه على خبر الجن، ومنهم أفّاكون في أصل تلقي شيء من الجن، ولما كان حال الكهان قد يلتبس على ضعفاء العقول ببعض أحوال النبوءة في الإخبار عن غيب، وأسجاعهم قد تلتبس بآيات القرآن في بادىء النظر.أطنَبت الآية في بيان ماهية الكهانة وبينت أن قصاراها الإخبارُ عن أشياء قليلة قد تصدق فأينَ هذا من هدي النبي والقرآن وما فيه من الآداب والإرشاد والتعليم والبلاغة والفصاحة والصراحة والإعجاز ولا تصدي منه للإخبار بالمغيبات.كما قال: {ولا أعلم الغيب} [الأنعام: 50] في آيات كثيرة من هذا المعنى.{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)}.كان مما حوته كِنانةُ بهتان المشركين أن قالوا في النبي صلى الله عليه وسلم هو شاعر، فلما نَثلَتْ الآيات السابقة سِهام كنانتهم وكسرتها وكان منها قولهم: هو كاهن، لم يبق إلا إبطالُ قولهم: هو شاعر، وكان بين الكهانة والشعر جامع في خيال المشركين إذ كانوا يزعمون أن للشاعر شيطانًا يملي عليه الشعر وربما سموه الرَّئِيّ، فناسب أن يقارَن بين تزييف قولهم في القرآن: هو شعر، وقولهم في النبي صلى الله عليه وسلم هو شاعر، وبين قولهم: هو قول كاهن، كما قرن بينهما في قوله تعالى: {وما هو بقول شاعِر قليلًا ما تُؤمنون ولا بقوللِ كاهن قليلًا ما تذّكّرون} [الحاقة: 41، 42]؛ فعُطف هنا قوله: {والشعراء يتبعهم الغاون} على جملة: {تنزل على كل أفّاك أثيم} [الشعراء: 222].ولمّا كان حال الشعراء في نفس الأمر مخالفًا لحال الكهان إذ لم يكن لملكة الشعر اتصال مّا بالنفوس الشيطانية وإنما كان ادعاء ذلك من اختلاق بعض الشعراء أشاعوه بين عامة العرب، اقتصرت الآية على نفي أن يكون الرسول شاعرًا، وأن يكون القرآنُ شعرًا.دون تعرض إلى أنه تنزيل الشياطين كما جاء في ذكر الكهانة.وقد كان نفر من الشعراء بمكة يهجون النبي صلى الله عليه وسلم وكان المشركون يُعْنَون بمجالسهم وسماععِ أقوالهم ويجتمع إليهم الأعراب خارج مكة يستمعون أشعارهم وأهاجيَهم، أدمجت الآية حال من يتَّبع الشعراء بحالهم تشويهًا للفريقين وتنفيرًا منهما.ومن هؤلاء: النضْر بن الحارث، وهبيرة بن أبي وهب ومُسافع بن عبد مناف، وأبو عَزة الجمحِي، وابن الزِّبَعْرَى، وأميةُ بن أبي الصَّلْت، وأبو سفيان ابن الحارث، وأمُّ جميل العوراء بنت حرب زوُج أبي لهب التي لَقبها القرآن: {حمَّالة الحطب} [المسد: 4] وكانت شاعرة وهي التي قالت: فكانت هذه الآية نفيًا للشعر أن يكون من خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم وذمًا للشعراء الذين تصدوا لهجائه.فقوله: {يتبعهم الغاوون} ذمّ لأتباعهم وهو يقتضي ذم المتبوعين بالأحرى.والغاوي: المتصف بالغي والغواية، وهي الضلالة الشديدة، أي يتبعهم أهل الضلالة والبطالة الراغبون في الفسق والأذى.فقوله: {يتبعهم الغاوون} خبر، وفيه كناية عن تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون منهم فإن أتباعه خيرة قومهم وليس فيهم أحد من الغاوين، فقد اشتملت هذه الجملة على تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم وتنزيه أصحابه وعلى ذم الشعراء وذمّ أتباعهم وتنزيه القرآن عن أن يكون شعرًا.وتقديمُ المسند إليه على المسند الفعلي هنا يظهر أنه لمجرد التقوّي والاهتمام بالمسند إليه للفت السمع إليه والمقام مستغن عن الحصر لأنه إذا كانوا يتبعهم الغاوون فقد انتفى أتباعهم عن الصالحين لأن شأن المجالس أن يتحد أصحابها في النزعة كما قيل: وجعله في الكشاف للحصر، أي لا يتبعهم إلاّ الغاوون، لأنه أصرح في نفي اتِّباع الشعراء عن المسلمين.وهذه طريقتُهُ باطراد في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي أنه يفيد تخصيصه بالخبر، أي قصْر مضمون الخبر عليه، أي فهو قصر إضافي كما تقدم بيانه عند قوله تعالى: {الله يستهزىء بهم} في سورة البقرة (15).والرؤية في {ألم تر} قلبية لأن الهُيام والوادي مستعاران لمعاني اضطراب القول في أغراض الشعر وذلك مما يُعلم لا مما يُرى.والاستفهام تقريري، وأجري التقرير على نفي الرؤية لإظهار أن الإقرار لا محيد عنه كما تقدم في قوله: {قال ألم نُربِّك فينا وليدًا} [الشعراء: 18]، والخطاب لغير معين.وضمائر: إنهم ويهيمون ويقولون ويفعلون عائدة إلى الشعراء.فجملة: {ألم تر أنهم في كل واد يهيمون} وما عطف عليها مؤكدة لما اقتضته جملة: {يتبعهم الغاوون} من ذم الشعراء بطريق فحوى الخطاب.ومثلت حال الشعراء بحال الهائمين في أودية كثيرة مختلفة لأن الشعراء يقولون في فنون من الشعر من هجاء واعتداء على أعراض الناس، ومن نسيب وتشبيب بالنساء، ومدح من يمدحُونه رغبة في عطائه وإن كان لا يستحق المدح، وذمِّ من يمنعهم وإن كان من أهل الفضل، وربما ذمّوا من كانوا يمدحونه ومدحوا من سَبق لهم ذمه.
|